كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَوْلِيَةِ اللهِ لِمِثْلِ هَذَا مَا تَوَلَّى هُوَ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِنَايَةً خَاصَّةً بِبَعْضِ عِبَادِهِ وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَنَهُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلْأَعْمَالِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ وَضَعَ نَفْسَهُ وَاخْتَارَ لَهَا وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ، نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهَبُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَيَزِيدُهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مَظِنَّةً لَهُ، فَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيَقُولُ الَّذِينَ فَسَّرُوا التَّوْلِيَةَ بِهَذَا النَّفْيِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْأَلْطَافِ: إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ ذَلِكَ، أَمِ الْحِرْمَانُ شَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ؟ وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِ ثَانِيَةً أَمْ لَا؟ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَسْلَمُ مِنَ الْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا تُدْفَعُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدَةِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الضَّالِّينَ إِلَى الْهُدَى؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَبُطْلَانِ مَا صَارَ إِلَيْهِ، لَا يَبْرَحُ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَلْجُ لَهُ.
أَمَّا السَّبَبُ الَّذِي يَحْمِلُ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَلَى تَرْكِهِ، فَهُوَ لابد أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الْقَوِيَّةِ كَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ، وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِ، وَالشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ، وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَلَّوْا عَنْهَا حَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِيثَارًا لِرِيَاسَتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَرْؤُوسِينَ فِي غَيْرِهِمْ، وَارْتِدَادُ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ عَنِ الْإِسْلَامِ، لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَطَمَهُ مِنَ السُّوقَةِ، وَارْتَدَّ أُنَاسٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ دِينِهِمْ لِافْتِتَانِهِمْ بِبَعْضِ النِّسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَيْ عِلَّةُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ هِيَ ضَعْفُ النَّفْسِ وَمَرَضُ الْإِرَادَةِ بِجَرَيَانِ صَاحِبِهَا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَعَدَمِ تَرْبِيَتِهَا عَلَى تَحَمُّلِ مَا لَا تُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ لِأَجْلِ الْخَيْرِ الْآجِلِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ إِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمُتَّبَعُ لَا يَتَمَثَّلُ لَهُ النَّفْعُ الْآجِلُ كَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ النَّفْعُ الْعَاجِلُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ، وَمَهَانَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيلَ مَعَهُ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَدَّ سِمَاطًا عَامًّا لِلنَّاسِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمْ أَعْرَابِيًّا يَأْكُلُ بِشَرَهٍ شَدِيدٍ فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَلْوَى تَرَكَ الطَّعَامَ وَوَثَبَ يُرِيدُهَا فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ سَيَّافَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْوَى قُطِعَتْ عُنُقُهُ بِأَمْرِ الْأَمِيرِ، وَالْحَجَّاجُ يَقُولُ وَيَفْعَلُ فَصَارَ الْأَعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى السَّيَّافِ نَظْرَةً وَإِلَى الْحَلْوَى نَظْرَةً، كَأَنَّهُ يُرَجِّحُ بَيْنَ حَلَاوَتِهَا وَمَرَارَةِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ: «أُوصِيكَ بِأَوْلَادِي خَيْرًا» وَهَجَمَ عَلَى الْحَلْوَى وَأَنْشَأَ يَأْكُلُ وَالْحَجَّاجُ يَضْحَكُ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِدْلَالُ بَعْضِهِمْ بِهَا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ مُخَالِفَهُ مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ فِي بَيَانِ حُجِّيَّتِهِ بِأَنَّهُ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يَعْنُونَهُ هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي أَيِّ عَصْرٍ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِهِ لَا بَعْدَ عَصْرِهِ، وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي بَيَّنْتُ عَدَمَ اتِّجَاهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَنَارِ، وَكَذَلِكَ رَدَّهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَالْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِرْشَادِ الْفُحُولِ، وَالْآيَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ الصَّحِيحِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (59)}، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَبَحْثُ الْإِجْمَاعِ فِيهَا، وَزِدْتُهُ بَيَانًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَعَلْتُهَا مُتَمِّمَةً لِتَفْسِيرِهَا.
{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا}.
بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَهَنَّمَ هِيَ مَصِيرُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيِّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ يَكُونُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ ظَاهِرًا جَلِيًّا بِمِثْلِ مَا فَعَلَ طُعْمَةَ مِنْ تَرْكِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي عَصْرِهِ وَغَيْرِ عَصْرِهِ فِي كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فِيهَا فَتَرَكَهَا وَعَادَى أَهْلَهَا وَوَالَى أَعْدَاءَهُمْ، فَإِنَّ مُشَاقَّةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مُشَاقَّةٌ لَهُ، وَلَكِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ لَا يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مُشَاقَّةٌ لِلرَّسُولِ وَاتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ يُوَلِّيهِ اللهُ مَا تَوَلَّى، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى حَيْثُ تَوَّجَهُ بِكَسْبِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ أَمْرَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إِلَى نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَخْتَصَّ مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ بِرَحْمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ.
وَبَقِيَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَهُ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ مِنْ أَنْوَاعِ ضَلَالِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ وَمَا لَا يَغْفِرُهُ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَبَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا النَّصُّ بِعَيْنِهِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ إِعَادَتِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَانُونًا وَلَا كِتَابًا فَنِّيًّا فَيَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا حَافِظُهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابُ هِدَايَةٍ وَمَثَانِيَ يُتْلَى لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ تَارَةً فِي الصَّلَاةِ، وَتَارَةً فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا تُرْجَى الْهِدَايَةُ وَالْعِبْرَةُ بِإِيرَادِ الْمَعَانِي الَّتِي يُرَادُ إِيدَاعُهَا فِي النُّفُوسِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ يُوَجِّهُ النُّفُوسَ إِلَيْهَا أَوْ بَعْدَهَا وَيُهَيِّئُهَا لِقَبُولِهَا، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْمَقَاصِدِ الْأَسَاسِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَمَكَّنَ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ فِي النُّفُوسِ إِلَّا بِالتَّكْرَارِ؛ وَلِذَلِكَ نَرَى أَهْلَ الْمَذَاهِبِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ الَّذِينَ عَرَفُوا سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَطَبَائِعَ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقَهُمْ يُكَرِّرُونَ مَقَاصِدَهُمْ فِي خُطَبِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمُ الَّتِي يَنْشُرُونَهَا فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، بَلْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ: إِنَّ نَشْرَ التُّجَّارِ لِلْإِعْلَانَاتِ الَّتِي يَمْدَحُونَ بِهَا سِلَعَهُمْ وَبَضَائِعَهُمْ وَيَدُلُّونَ النَّاسَ عَلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُبَاعُ فِيهَا هُوَ عَمَلٌ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ إِذَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَدْحُ الشَّيْءِ وَلَوْ مِنَ الْمُتَّهَمِ فِي مَدْحِهِ لابد أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَتَتِمَّتُهَا هُنَا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [4: 48]، وَقَدْ تَقَدَّمَهَا هُنَالِكَ إِثْبَاتُ ضَلَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَحْرِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ دَرَجَاتٌ، فَمِنْهَا مَا تَغْلِبُ النُّفُوسَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَزَوَاتُ الشَّهْوَةِ وَثَوَرَاتُ الْغَضَبِ ثُمَّ يَعُودُ صَاحِبُهُ وَيَتُوبُ، فَهَذَا مِمَّا تَنَالُهُ الْمَغْفِرَةُ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ فَلَا يُغْفَرُ الْمَيْلُ عَنْهُ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرَكِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ السِّيَاقَ هُنَا كَالسِّيَاقِ هُنَاكَ فَأَعَادَهَا لِذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ مُشَاقَّةَ الرَّسُولِ وَمُخَالَفَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْوُقُوعِ فِي الشَّرَكِ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ رُوحُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ، فَالْمُنَاسَبَةُ هُنَا تَقْتَضِي أَنْ يُعَادَ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِعَادَةٌ تُنَادِي الْبَلَاغَةُ بِطَلَبِهَا وَلَا تُعَدُّ مِنَ التَّكْرَارِ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ يُنَافِي الْبَلَاغَةَ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ فَهِمُوا مِنْكَ مَعْنَى تَمَامِ الْفَهْمِ كَمَا تُرِيدُ، ثُمَّ ذَكَرْتَهُ لَهُمْ بِعِبَارَةٍ لَا تَزِيدُهُمْ فَائِدَةً وَلَا تَأْثِيرًا جَدِيدًا وَلَا تَمْكِينًا لِلْمَعْنَى وَأَمَّا مَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ. اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يُوَجَّهُ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ يَسْمَعُونَهُ وَيَتْلُونَهُ كُلَّهُ وَيَتَذَكَّرُونَ عِنْدَ كُلِّ سِيَاقٍ مَا يُنَاسِبُهُ فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا أَنْتَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْمَعُ هَذَا السِّيَاقَ الَّذِي جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ ذَلِكَ السِّيَاقِ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْأُخْرَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّكَ تَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا مَحَلَّ لِجَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التِّكْرَارِ الَّذِي يَفِرُّونَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الشَّاعِرِ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فِي قَصِيدَتَيْنِ يَمْدَحُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلًا غَيْرَ الَّذِي يَمْدَحُهُ فِي الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ: إِنَّ هَذَا التَّكْرَارَ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ تُكَأَتُهُمْ فِي تَعْلِيلِ كُلِّ تِكْرَارٍ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّكْرَارِ الْمَحْضِ مُنْتَقِدًا وَمُخِلًّا بِالْبَلَاغَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ رُكْنُ الْبَلَاغَةِ الرَّكِينِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْمُتَكَلِّمُ مُرَادَهُ مِنَ النَّفْسِ بِدُونِهِ.
وَأَمَّا مَعْنَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلَا يَصُدُّنَا ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ فِيهِ شَيْئًا هُنَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا: أَكَّدَ اللهُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ شِرْكَهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ قَدْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمُذْنِبِينَ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي بَعْضِ مَبَاحِثِ الْمَنَارِ أَنَّ عِقَابَ اللهِ تَعَالَى لِلْمُذْنِبِينَ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَمَا أَنَّ السُّكَّرَ يُحْدِثُ فِي الْبَدَنِ أَمْرَاضًا يَتَعَذَّبُ صَاحِبُهَا بِهَا فِي الدُّنْيَا يُحَدِثُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَطَايَا أَمْرَاضًا فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ يَتَعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الْآخِرَةِ وَكَمَا أَنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ وَصِحَّةَ الْمِزَاجِ تَغْلِبُ بَعْضَ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ فَلَا يَظْهَرُ لَهَا تَأْثِيرٌ مُؤْلِمٌ يُعَذِّبُ صَاحِبَهُ كَذَلِكَ قُوَّةُ الرُّوحِ بِالتَّوْحِيدِ وَصِحَّةُ مِزَاجِهَا بِالْإِيمَانِ، وَالْفَضَائِلُ تَغْلِبُ بَعْضَ الْمَعَاصِي الَّتِي قَدْ يُلِمُّ بِهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا مِنْ قَرِيبٍ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْبَدَنِ لَا تَدْفَعُ مَا يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ فَيَقْطَعُ نِيَاطَهُ أَوْ لِلدِّمَاغِ فَيُتْلِفُهُ، كَذَلِكَ الشِّرْكُ يُشْبِهُ فِي إِفْسَادِهِ لِلْأَرْوَاحِ مَا يُصِيبُ الْقَلْبَ أَوِ الدِّمَاغَ مِنْ سَهْمٍ نَافِذٍ أَوْ رَصَاصَةٍ قَاتِلَةٍ، فَلَا مَطْمَعَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ الشِّرْكَ فِي نَفْسِهِ هُوَ مُنْتَهَى فَسَادِ الْأَرْوَاحِ وَسَفَاهَةِ الْأَنْفُسِ وَضَلَالِ الْعُقُولِ فَكُلُّ حَقٍّ أَوْ خَيْرٍ يُقَارِنُهُ لَا يَقْوَى عَلَى إِضْعَافِ شُرُورِهِ وَمَفَاسِدِهِ، وَالْعُرُوضِ إِلَى جِوَارِ اللهِ تَعَالَى بِرُوحِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مُتَعَلِّقَةً بِشُرَكَاءَ يَحُولُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخُلُوصِ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَالْمُذْنِبُ قَدْ يَكُونُ فِي إِيمَانِهِ وَسَرِيرَتِهِ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ وَحْدَهُ، فَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ قَدْ يَعْصِي وَقَدْ يَأْبَقُ فَلَا الْعِصْيَانُ وَلَا الْإِبَاقُ يُخْرِجَانِهِ عَنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ، وَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَا يَغْفِرُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ لَا قِنًّا وَلَا مُبْغِضًا {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [39: 29]، بَلْ هُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا امْتِيَازَهُمْ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُلُوكِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَبِيدٌ أَمْثَالُهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَرِكَةٌ مَا فِي مَقَامِ الْعِبَادَةِ لَا بِدُعَاءٍ وَلَا نِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ مَا اسْتَكْبَرُوا خَلْقَهُ أَوْ نَفْعَهُ أَوْ ضَرَّهُ كَالْكَوَاكِبِ وَالنَّارِ وَبَعْضِ الْأَنْهَارِ وَالْحَيَوَانَاتِ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [7: 194]، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ، أَيْ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ هُمْ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، الَّتِي تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أَيْ: أَقْرَبُهُمْ وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً كَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمَسِيحِ يَبْتَغِي هَذِهِ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَإِنَّ أَعْرَفَهُمْ بِهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَرَجَاءً فِي فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَجِدُ الْمَلَايِينَ مِنْهُمْ يَدْعُونَ الْمَسِيحَ وَيُوَجِّهُونَ كُلَّ عِبَادَتِهِمْ إِلَيْهِ وَحْدَهُ تَارَةً، وَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ مَعَ اسْمِهِ تَارَةً أُخْرَى، وَتَجِدُ مَلَايِينَ مِنْ دُونِهِمْ يَدْعُونَ وَيُنَادُونَ مِنْ دُونِ الْمَسِيحِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَصْمُدُونَ إِلَى قُبُورِهِمْ أَوْ إِلَى الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الَّتِي اتَّخَذَهَا قُدَمَاءُ الْمَفْتُونِينَ بِهِمْ تِذْكَارًا لَهُمْ، وَإِنَّنِي أَكْتُبُ هَذَا فِي ضَوَاحِي مَدِينَةِ دِهْلِي مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْهِنْدِ وَأَنَا أَرَى أَصْنَافًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَجُولُونَ أَمَامِي فِي مَصَالِحِهِمْ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ خَلْقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [43: 9]، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودَاتُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ وَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَشُفَعَاءٌ {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [10: 18]، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ الْعِبَادَةَ إِلَّا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ {إِنَّا أَنْزَلَنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ} [39: 2، 3].